قال استاذ العلوم السياسية، خيري عمر، إنه يمكن إعادة تأسيس الحكم الانتقالي في ليبيا وفق نظام الجمعية الوطنية، بحيث يكون البرلمان مُستَقَر السلطة وتوسيع اختصاصه، ليشمل إصدار الدستور من دون استفتاء.
وأضاف عمر، في مقال، أنه قد يُوفر التلاقي الدولي والداخلي على الاعتراف بالمجلس الرئاسي بيئة ملائمة لإدارة الانتخابات والإعداد لها استناداً لصلاحياته السيادية والمالية في خارطة الطريق الحالية.
وتاليا نص المقال:
في ضوء البحث عن حل سياسي في بلدهم، شارك سياسيون ليبيون في عدة اجتماعات لأجل وضع تصوّر للخروج من المرحلة الانتقالية أو الأزمة السياسية، ومنذ بدايات يناير/ كانون الثاني الحالي، ظهرت ثلاث محاولات، حاولت كل منها شرح سياساتها للوصول إلى الانتخابات، وهو ما يثير التساؤل عن فرصة التنسيق أو قدرتها على معالجة القيود الداخلية والخارجية، وهنا، يساهم تحليل أداء المكونات الليبية وقابليتها للدخول في عملية سياسية، وأيضاً مدى استجابتها للمتغيرات الدولية في تحديد ملامح التلاقي والتباعد عن الاستقرار.
محاولات ليبية للبحث عن حل
في المحاولة الأولى، وبعد تعثّر اجتماع رئيس مجلس النواب عقيلة صالح ورئيس المجلس الأعلى للدولة خالد المشري في ليبيا، انعقد اجتماعهما في القاهرة لمناقشة القاعدة الدستورية. وعلى خلاف إشارة البيان المشترك، 5 يناير/ كانون الثاني 2023، للتفاهم على إعداد خريطة طريق جديدة وإحالة القاعدة الدستورية على المجلسين لإقرارها، صدرت تصريحاتٌ متخالفة، من الرئيسين، بشأن الموقف من شروط ترشيح مزدوجي الجنسية. يتّسق هذا التذبذب مع الاتجاه للعلاقة بينهما، فعلى مدى العامين الماضيين، يصعُب استخلاص قائمة المتغيرات المؤثرة على التقارب أو التباعد، غير أنه، لأسباب ذاتية، أو لضغوط من البيئة السياسية، وقد تُشكّل العوامل الشخصية مدخلاً لتفسير ارتباك التقدّم نحو إعداد تشريعات الانتخابات. ويمكن النظر إلى البيانات المشتركة وسيلة لتجنب الإلزامين، القانوني والسياسي، فعلى الرغم من التعهد بإلغاء قانون المحكمة الدستورية، حسب البيان المشترك في 23 ديسمبر/ كانون الأول الماضي، لم يناقش أيُ من المجلسين القانون مرّة أخرى.
وفي المحاولة الثانية، دعا المؤرخ والداعية، علي الصلابي، إلى اجتماعٍ في إسطنبول تحت عنوان اللقاء التشاوري، شارك فيه 39 سياسياً (حسب قائمة المشاركين) من اتجاهاتٍ مختلفة، فيما استثنى الدوائر القريبة من حكومة الوحدة الوطنية أو الحكومة المُكلَفة. وحسب البيان الختامي، 4 يناير/ كانون الثاني 2023، تسعى هذه المجموعة إلى العمل كجماعة ضغط على المجلسين والبعثة الأممية، على أن تتحوّل إلى كيان تنظيمي عبر اجتماع آخر في ليبيا. ووفقاً لتوجهها، يقوم حل المُشكل الليبي على الحوار الوطني والمشاركة المتساوية للمكونات السياسية والاجتماعية، بحيث تضمن سيادة ووحدة الدولة.
وفي سياق متزامن، عقد المجلس الرئاسي (المحاولة الثالثة) مؤتمر المصالحة الوطنية من 8 وحتى 12 يناير، شارك فيه مسؤولون من الاتحاد الأفريقي وشخصيات ليبية من المناطق المختلفة. ويأتي انعقاد المؤتمر ضمن مقترحات رئيس المجلس الرئاسي، محمد المنفي، في 6 سبتمبر/ أيلول 2022، حيث اعتبرها مفتاح الانتقال الآمن للوضع الدائم وإعادة بناء الثقة بين الليبيين. دارت الكلمات حول دعم تحرّكات المجلس الرئاسي لخفض الاحتقان بين المؤسسات الليبية. وفي كلمته، حدّد المنفي مشكلة ليبيا في سياسات تقاسم السلطة، النفوذ والموارد، بالإضافة إلى تجاهل مطالب الشعب والإصرار على التمثيل الجهوي. ولذلك، أدّت هذه التوجهات إلى الإخلال بالرقابة القانونية والسياسية وتراكم المشكلات أكثر مما ساهمت في تكوين حلولٍ للخروج من الأزمة.
ووفق تصوّره وسيطاً وعلى مسافة واحدة من المكوّنات الليبية، يطرح المجلس الرئاسي مسارين، يتمثل الأول في توسيع المرجعية والمصادر، بحيث لا تقتصر على الوضع الدستوري الراهن، لتشمل العرف، الدين والسِلم. أما المسار الثاني، حيث يعمل على دمج الشعب في المعادلة السياسية بالضغط على المؤسّسات لاستكمال مشروع المصالحة والانتهاء من القاعدة الدستورية.
وباستثناء محاولة المجلس الرئاسي تحديد ملامح المشكلة وتوسيع المنظور الاجتماعي والسياسي للتعامل معها، تستمدّ المقترحات الأخرى تصوّراتها من الوضع القانوني القائم، رغم تدهور قدرته على توفير حل سياسي، فمن جهةٍ، تقوم مشروعية المؤسسات على الأمر الواقع، فحسب قرارات المحكمة العليا، تكون قرارات الهيئة تأسيسية، مجلس نواب أو مجلس دولة عرضةً للطعن. وبالتالي، يُضعف استمرار التفكير في دائرة الدستور والقوانين القائمة قابلية الحوار، حيث يُؤسّس اختيار أي مُسند من القانون، للخلاف والصراع.
بين الاستقرار والاهتزاز
تتشابه المسارات الثلاثة في محاولة احتكار التعبير الوطني عن مصالح المجتمع، غير أنها تختلف فيما يتعلق بالاستقرار التنظيمي أو القدرة السياسية، فبينما يتمتّع مسارا المؤسسات بصفة رسمية وشبكة علاقات واسعة داخل ليبيا وخارجها، لا يُعد ملتقى إسطنبول كياناً سياسياً، ويبدو أقرب إلى حملة ضغط منها إلى فاعل سياسي، حيث يفتقر للشبكات المستقرّة، وذلك مُقارنة بالعلاقات الصلبة ما بين محمد المنفي، خليفة حفتر وعقيلة صالح، ومحاولة خالد المشري الالتحاق بها.
بدأ المجلس الرئاسي بدخول المشهد السياسي عبر اقتراح المصالحة الوطنية استناداً لاختصاصاته السيادية في خريطة الطريق، بالإضافة إلى صلاحيات أخرى، تتمثل في تعيين المناصب العليا والإشراف على الحكومة واعتماد الترتيبات المالية. ومع تأرجح مجلسي النواب والدولة تجاه مسار الانتخابات، اقترح محمد المنفي عقد لقاء مع مجلسي النواب والدولة، غير أنه إزاء عدم الترحيب، اتّجه إلى استثمار الاعتراف الدولي في توسيع نطاق اتصالاته في العلاقات الخارجية، وكان لقاؤه في القاهرة مع خليفة حفتر لمناقشة وصول المخصّصات المالية إلى الجيش والجهات الحكومية في الشرق. وعلى الرغم من صلاحياته الواسعة، لا تُساعد طبيعتها الاسمية على تطوير دوره السياسي، حيث تقتصر على التمثيل، الإشراف والرقابة من دون صلاحية تحريك الجهاز الإداري أو صرف الأموال.
وفيما تكمن أهمية تحرّك المجلس الرئاسي في أنه الجهة الأكثر تماسكاً في ليبيا، بدت مؤشّرات انخفاض مؤسسية مجلسي التشريع من جانبين، الأول، حيث تتابع انفراد الرئيسين عقيلة صالح والمشري بإصدار بيانات مشتركة، وتجنّب عقد جلسات رسمية لاتخاذ قرارٍ بشأن ما يتم الاتفاق عليه، فقد هيمن السلوك الفردي على مؤسّستي التشريع، حيث اتخذ نمطين تكرّر توقيع أعضاء من المجلسين لبياناتٍ من دون صدورها قرارا من المجلس، وصل بعضها إلى الأغلبية المطلقة، وهو ما يشير إلى عطل في تسيير المؤسسات وافتراق رغبة الأعضاء عن تطلعات رئيسي المجلسين. وهي ظاهرةٌ تعكس قدراً من تفكّك الإرادة التشريعية، وخصوصاً لدى انفراد، قام صالح بدور مجلس رئاسة النواب في اتخاذ قرارات، كما سلك المشري المسار نفسه عندما اتخذ مواقف قبل مناقشتها في جلسةٍ رسمية.
وقد انعكس هذا السلوك في سعي أعضاء المجلسين إلى التعبير عن مواقفهم. ولذلك، بدا الجانب الثاني، في تسارع إصدار بيانات وإدراج أسماء الأعضاء عشوائياً. وقد تسارع إصدار بيانات عديدة على خلاف إرادة الرئيسين. ويُمثل موقف أعضاء مجلس الدولة من التعديل الدستوري الثاني عشر، 15 فبراير/ شباط 2022 نوعاً من الخلل والفُكاهة في آنٍ، عندما ظهر 12 اسماً مشتركاً في بيانين للمعترضين والموافقين. وقد تكرّر سلوكٌ مُقاربٌ عندما صدرت أربعة بيانات تعبر عن جهات تابعة لمجلس الدولة، وفيما يُعدّ انعكاساً للتنافس الداخلي والدعاية السياسية صدر ثلاثة بيانات في 7 ديسمبر/ كانون الأول الماضي عن رئيس المجلس ولجنة المسار الدستوري للتعبير عن رفض تعديلات النظام القضائي.
وكما في كل مرّة، يظهر اختلاف رواية رئيسي المجلسين، بعد وقت قليل من انتهاء اجتماعاتهم، فبعد لقاء القاهرة، حيث ظهر اختلاف روايةٍ حول ترشيح مزدوجي الجنسية. يرتبط تنافر الروايات بكثرة المصادر الشفهية وتجنّب عرض مِدوّنة المناقشات للجماهير، وثَمَّة احتمالٌ بأن سيولة التفاهمات ترجع إلى تعدّد مصار التأثير الدولية. على أية حال، ساهمت هذه الظروف في فشل عقد اجتماع مستقل داخل ليبيا، فيما يجتمعون خارج البلاد بسهولة، لكن من دون إنجاز واضح، ويُفسر تَغير موقف عقلية صالح من مجلس الدولة وعدم اعتباره شريكاً تشريعيا جانباً مُهماً من التناقضات الداخلية والخارجية.
قيود مستمرّة
تواجه المسارات الثلاثة القيود المترتبة على تداعيات الحوار السياسي، حيث ساهم في تكوين مؤسّسات مُنقسمة، فمنذ 2016، استمرّت مُنازعات المشروعية بين المجموعات السياسية والمُسلحة. في هذا السياق. وحسب القوانين الصادرة من مجلس النواب، يرجع تجنّبه الاعتراف بالاتفاق السياسي وخريطة الطريق لرفض نقل صلاحيات عقيلة صالح التنفيذية للمجلس الرئاسي. واجهت المؤسسات الانتقالية انتهاكاتٍ من النخبة الجديدة، وكما ساهم أنصار ثورة فبراير في اقتحامات المؤتمر الوطني العام وهزّ مرجعية الإعلان الدستوري. تشكلت هذه النتائج من تجاوزهم قرار المحكمة العليا برفض التعديل الدستوري الثالث، 24 فبراير/ شباط 2013، وإجراء 12 تعديلاً على المادة 30 من الإعلان الدستوري.
وعلى أي حال، وبينما، تفتقر المسارات الثلاثة للقدرة على فرض الأمر، فمن الناحية الفعلية، تتقاسم حكومة الوحدة والقيادة العامة السيطرة على الأراضي والمؤسّسات، بحيث يستحوذان السلطة والنفوذ الكافي للبقاء فاعلين رئيسيين في السياسة الليبية. ويمكن فهم حرص المسؤولين الأجانب، في أثناء زيارتهم ليبيا، على عقد اجتماعات رسمية مع رئيس الوزراء وقائد الجيش. وعلى مدى سنوات، ظلت الحكومة في طرابلس وقيادة الجيش في شرق ليبيا محطّ اهتمام الدول، فيما انكمش تأثير محاولات الحراك الاجتماعي والسياسي.
ووفق التحرّكات أخيرا، تبدو أدوار مصر والولايات المتحدة وتركيا غير متناسقة، لكنها تتشارك القلق تجاه وجود روسيا (فاغنر). وتوضح خريطة اللقاءات مع الليبيين ندرة التلاقي على ملامح المرحلة المقبلة. وقد استضافت القاهرة عدة اجتماعات لقيادات ليبية واللجان المشتركة، شكّلت كل الأطراف الرسمية، باستثناء ممثلين عن حكومة الوحدة الوطنية. وعلى الرغم من كثافة الدور المصري، ظلت مشكلات انعقاد الانتخابات، وخصوصاً بعد تَغَير موقف رئيس مجلس النواب بعد عودته من القاهرة وحديثه السلبي عن مجلس الدولة. وسعت الولايات المتحدة إلى توطيد السلطة التنفيذية، وتمكينها من موارد الدولة، وتكشف لقاءات مدير المخابرات الأميركية، وليام بيرنز، ورئيس الوزراء، عبد الحميد الدبيبة، ثم خليفة حفتر، انحسار الاهتمام الأميركي بمستقبل الدولة أو الدستور أو الانتخابات، ليقتصر على تسهيل إنتاج النفط وحمايته. في هذا السياق، تتلاقى تركيا، جزئياً، مع الولايات المتحدة في تمكين السلطة التنفيذية، لكنها ومصر بدتا أكثر انفتاحاً على المضي في الإعداد للانتخابات، وبتقريب مجلس الدولة من حكومة الوحدة الوطنية.
ضرورة تمركز السلطة للانتخابات
في ظل هذه التعقيدات، يُواجه الحديث عن مرحلة انتقالية أخرى أو تشكيل حكومة جديدة اعتراضاتٍ من البعثة الأممية وبعض الدول، فضلاً عن أطراف ليبية. وعلى أي حال، أطاحت الفترة الماضية كل مقومات الانتخابات الحرّة والنزيهة، فقد تراكمت شبكات مصالح متعارضة لدى السياسيين والإدارات العليا. وعلى مدى سنوات، ظل تشتّت السلطة وانقسامها عقبةً تحول دون انعقاد الانتخابات. وبالتالي، يوفر العمل على تركيزها مرّة أخرى الحد الأدنى من الملاءمة السياسية والتخلي عن ميول العزل السياسي عبر تضييق شروط الترشيح، وتجنّب العوامل التي أدّت إلى فشل انتخابات ديسمبر 2021، فالخلاف بشأن ترشيح العسكريين ومزدوجي الجنسية يغلب عليه الطابع السياسي أكثر منه تحوّطاً لحماية استقلال الدولة أو ضمان حياد الجيش وفقاً للتقاليد الدستورية المستقرّة، ففي حالة ليبيا، لا تتوفر مؤسسات ناضجة أو مستقرّة، ليس لغياب النظام الدستوري الصارم فقط، ولكن لتطلّع كل المكونات للاستحواذ على الدولة وانتشار الصراع فيما بينها، بحيث تتماثل مصادر تهديد العملية السياسية، سواء كانت ترجع إلى مكوّنات عسكرية أو لمجموعات مسلحة أو دوائر النفوذ في الإدارات المدنية.
وهنا، تبدو أهمية البحث عن شروط التوازن اللازمة لانعقاد الانتخابات. في هذا السياق، يُعد الحديث عن الضمانات وتهيئة البيئة أكثر جدوى من تضييق شروط الترشيح. قد يقتضي الخروج من مشكلات النظام الانتخابي من خلال تحييد النفوذ وتقليل عوامل التأثير في أثناء الانتخابات، ويأتي تعديل النظام الانتخابي في أولوية المهام السياسية، حيث الضمانة الأساسية في الإقلاع عن نظام الأكثرية النسبية (الصوت الواحد) والتحوّل إلى النظام الفردي القائم على الأغلبية المطلقة مع مضاعفة مقاعد المجلس التشريعي، مع توسيع اختصاصاته، لتشمل إصدار دستور بدون استفتاء. ويمكن وضع تعريف للاستقالة من المناصب لغرض الترشيح، بما يضمن نقل السلطة وليس التفرّغ للحملة الانتخابية، بالإضافة إلى منع ترشيح الجهات المنظمة لها، وبحيث لا يقتصر على موظفي المفوضية الوطنية للانتخابات.
في اتساع التناقضات وانتشار عيوب المشروعية في كل المؤسّسات وخلافها حول الوضع الدستوري، يمكن إعادة تأسيس الحكم الانتقالي وفق نظام الجمعية الوطنية، بحيث يكون البرلمان مُستَقَر السلطة وتوسيع اختصاصه، ليشمل إصدار الدستور من دون استفتاء. وقد يُوفر التلاقي الدولي والداخلي على الاعتراف بالمجلس الرئاسي بيئة ملائمة لإدارة الانتخابات والإعداد لها استناداً لصلاحياته السيادية والمالية في خارطة الطريق الحالية.