الوطن| رصد
سلط تقرير مطول لمجلة أميركية الضوء على منصب محافظ مصرف ليبيا المركزي الذي يشغله الصديق الكبير منذ العام 2011، باعتباره الصامد، خلال عقد من الاضطرابات وحربين أهليتين وحكومات متعاقبة، أمام العديد من محاولات إزاحته، سواء من قبل الدبلوماسيين الأميركيين أو الفصائل الليبية المتعاقبة، حاملاً مفاتيح خزانة ليبيا.
وبدأ التقرير الذي كتبه كبير الباحثين في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية ولفرام لاخر لمجلة «نيو لاينز» الأميركية، بوصف السياق الأمني للمصرف وشخصية الصديق الكبير، الذي قال إنه يبدو أقرب إلى موظف عمومي متوسط الرتبة ذي هندام إيطالي محافظ، متابعًا: «إذا سُئل عن السياسات التي يهاجمه أعداؤه بسببها، فسوف يرد دائمًا بشرح بهدوء كيف يتبع البنك المركزي القانون بحذافيره، ويثير حديثه بعبارات إنجليزية للتفاخر بتعليمه الأميركي»، معتبرًا أنه يتمتع بوجود يتناقض مع السلطة الواسعة التي يعزى إليها العديد من الليبيين الذين يصفونه بأنه حاكم الواقع في البلاد.
يشير التقرير إلى مفارقة جوهرية في ليبيا ما بعد ثورة فبراير، تتمثل في أن البيروقراطية لا تزال قائمة، على مدار العقد الماضي، رغم انهيار سلطة الدولة بالكامل، حيث استمرت الدولة في إضافة موظفين إلى جدول رواتبها، حتى في الوقت الذي أدت فيه الحرب الأهلية إلى تقسيم البلاد بين الحكومات المتنافسة، وأوقف قادة المجموعات المسلحة إنتاج النفط لفترات طويلة من الزمن.
تضخم التعيينات الحكومية
ويرصد «ولفرام لاخر» مفارقة بخصوص التوظيف، بقوله إن عدد موظفي الدولة تضاعف تقريبًا، منذ سقوط القذافي، إلى 2.4 مليون، من إجمالي عدد السكان البالغ 7 ملايين نسمة، حيث توظف وزارة التعليم وحدها أكثر من 650 ألف شخص، أي ما يقرب من 10% من السكان، لكن المدارس والجامعات الحكومية في أزمة، حيث تلجأ الأسر المقتدرة إلى إلحاق أبنائهم بشكل متزايد إلى المؤسسات الخاصة.
أمَّا وزارة الصحة، وظَّفت 210 آلاف شخص آخرين، على الرغم من أن المستشفيات الحكومية آخذة في الاضمحلال، غالبًا ما يحيل الأطباء مرضاهم إلى العيادات الخاصة، ويقضي موظفو الدولة عمومًا بضع ساعات فقط يوميًا في أماكن عملهم، ويحضر الكثير منهم مرة واحدة فقط في الأسبوع، أو لا يحضرون على الإطلاق. وفي الوقت نفسه، فإن المهام اليدوية هي حكر على العمال المهاجرين من مصر.
عندما التقى «ولفرام لاخر» لأول مرة في العام 2018، قلل الصديق الكبيرمن شأن السياسيين بسبب فترات التوظيف، قائلاً: «الحكومة ضعيفة.. لقد استمروا في إضافة أشخاص إلى كشوف المرتبات ، ثم يأتون إلينا يطلبون أن نغطي هذه الرواتب». لكن الباحث يعلق بأن المصرف المركزي هو الذي يقوم في نهاية المطاف بدفع الرواتب أو يحجبها، أحيانًا لعدة أشهر، وهو الاختصاص الحصري للصديق الكبير منذ العام 2014.
الكبير يستفيد من الاعتراف الغربي
واستمر التقرير سرد ملابسات المواجهات المسلحة في طرابلس وانقسام إدارة الصرف المركزي بين شرق وغرب البلاد، عندما انتقل نائب المحافظ آنذاك، علي الحبري، رفقة ثلاثة أعضاء آخرين في مجلس الإدارة إلى شرق ليبيا، قبل تعيين مجلس النواب الحبري محافظًا، وقتها انتقل كبير إلى مالطا مع اندلاع الحرب، قبل أن يعود إلى طرابلس، محتفظًا بولاء عضوين آخرين في مجلس الإدارة، والأهم من ذلك كله السيطرة على رموز «سويفت» (SWIFT) الخاصة بالبنك، والتي تساعد البنوك على التعرف على بعضها البعض، مع عدم اعتراف الحكومات الغربية بالتعيينات الجديدة التي أجراها مجلس النواب في البنك المركزي والمؤسسة الوطنية للنفط، وهو ما سمح للكبير بالتغلب على الحبري.
ومنذ الانقسام، مارس «الكبير» سيطرة حصرية على مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، واستمرت عائدات النفط في التراكم في البنك المركزي في طرابلس، وهو الوضع الذي جعل عملية وضع الميزانية العادية مستحيلة، مما جعل محافظ المصرف لاعبًا مركزيًا في جميع المفاوضات المستقبلية بشأن الإنفاق الحكومي.
تمويل جانبي الحرب.. نقطة ارتكاز للصديق الكبير
السمة الأخرى التي رصدها الباحث ولفرام لاخر تتمثل في استمرار المصرف المركزي في طرابلس في دفع رواتب موظفي الدولة في جميع أنحاء ليبيا، بما في ذلك منتسبي المجموعات المسلحة على جانبي الحرب، وهو ما اعتبره الصديق الكبير محاولة للحفاظ على حياد البنك المركزي في الصراع. ونقل الباحث عن سفيرة الولايات المتحدة في ذلك الوقت ديبورا جونز قولها: «لقد كان الأمر يدفع وزير الخارجية الأمريكية آنذاك جون كيري إلى الجنون.. كان يسأل عن كبير (لماذا لا يقطعها؟)».
وهنا يضرب الباحث مثالاً بأن أموال الدولة وصلت إلى بعض «الجماعات الجهادية» خلال الحرب، لافتا إلى أن شيكات البنك المركزي وصلت إلى عناصر «أنصار الشريعة» التي أدرجتها الأمم المتحدة والولايات المتحدة على القائمة السوداء على أنها تابعة لتنظيم القاعدة في العام 2014، وقتها أكد «الكبير» صحة الشيكات، وألقى باللوم على إهمال أحد مرؤوسيه أثناء سفره.
ولم يغفل التقرير أن مدفوعات الرواتب ضمنت احتفاظ الليبيين العاديين بحد أدنى من الدخل على الرغم من التداعيات الاقتصادية الوخيمة للصراع، حسب ما أفادوا المواطنين في جميع أنحاء البلاد، لافتا إلى أن حكومة الوفاق الوطني في طرابلس أضافت مئات الآلاف من موظفي السلطات الموازية الشرقية إلى كشوف رواتبها، ويثير التقرير إشكالية أن هذه الأموال مخصصة للرواتب ظاهريًا، إلا أنه لا توجد وسيلة للتحقق من المستفيدين النهائيين من الأموال.
ويشير التقرير إلى أن مسألة الاستمرار في دفع الرواتب في جميع أنحاء ليبيا، يدفع البعض للقول إن البنك المركزي هو العمود الأخير الذي يربط البلاد معًا، وهو المسؤول الوحيد عن الحفاظ على اقتصادها مستمرًا، و«يزعمون» أيضًا أنه من خلال مطالبة الوزارات بمطابقة الموظفين مع نظام الهوية الوطنية الذي جرى تقديمه في العام 2015، فقد ساعدوا في الحد من الاحتيال على الرواتب على نطاق واسع.
ويعتقد الباحث أن تصوير الصديق الكبير للمصرف المركزي بمؤسسة تكنوقراطية محايدة سياسيًا «يتناقض بشكل صارخ» مع الاتهام الذي وجهه إليه أعداؤه العديدون وردده العديد من الدبلوماسيين الغربيين في السنوات الأخيرة، باعتباره أدى إلى تفاقم المشاكل الاقتصادية في ليبيا، واستغلالها لشراء الولاءات والحفاظ على منصبه.
يضع التقرير يده على مفارقة أخرى عندما أغلقت قوات تابعة لإبراهيم الجضران منشآت نفطية، وهي لجوء الصديق الكبير، كرد فعل على فقدان المصدر الوحيد لإيرادات الصادرات الليبية، إلى خفض الإنفاق الحكومي بشكل كبير وبيع العملة الصعبة من أوائل العام 2015 فصاعدًا، وتحديد سعره العملة المحلية مقابل الدولار من قبل البنك المركزي، الذي يصرح ببيع العملات الأجنبية للمستوردين من خلال خطابات الاعتماد التي تصدرها البنوك.
مسؤولية الصديق الكبير عن تدهور قيمة العملة
أما النقطة التي جعلت الصديق الكبير لاعبا أساسيًا في الاقتصاد المحلي، هو لجوئه بحلول العام 2016 إلى خفض مبيعات العملة الصعبة إلى ثلث مستواها في 2014، وبسبب عدم تمكنهم من الحصول على العملات الأجنبية من خلال خطابات الاعتماد، لجأ المستوردون إلى السوق السوداء، مما حرم النظام المصرفي من أموالهم وأثار نقصًا مزمنًا في السيولة في البنوك، وكانت النتيجة اتساع الفجوة بين أسعار الصرف الرسمية وسعر الصرف في السوق السوداء. وبحلول أواخر العام 2016، كان سعر الدولار في السوق السوداء أربعة أضعاف السعر الرسمي، بعد ذلك بعام، تضاعف ستة أضعاف السعر الأصلي. كما فتح الوصول إلى العملات الأجنبية بالسعر الرسمي فرصًا هائلة للاحتيال من خلال استغلال فارق السعر مع السوق السوداء، حيث تفتح الشركات خطابات اعتماد لسلعة معينة، ثم تستورد حاويات مملوءة بزجاجات المياه أو لا شيء، بعد رشوة الجمارك لإثبات أن الصفقة قد اكتملت كما هو مخطط لها، ما يسمح لهم لبيع العملة الصعبة التي اشتروها بالسعر الرسمي في السوق السوداء، وجني أرباح تصل إلى 600%.
يقول الباحث إن هؤلاء التجار حققوا ثروات مذهلة في الفترة من 2015 إلى 2018، حتى مع ارتفاع تكلفة الواردات التي أدت إلى فقر شرائح واسعة من المجتمع الليبي، وكان من بين رجال الأعمال الذين ارتقوا من الغموض إلى الظهور المفاجئ، مستورد للمواد الغذائية يدعى محمد طاهر عيسى، وهو من سكان مصراتة، التي استضافت منذ العام 2011 بعض أقوى الجماعات المسلحة في غرب ليبيا.
وشير التقرير إلى مزاعم على نطاق واسع بأن عيسى، الذي أُطلق عليه لقب «ملك خطابات الاعتماد» على وسائل التواصل الاجتماعي الليبية، استفاد من امتياز الوصول إلى العملة الصعبة بفضل العلاقات الحميمة التي أقامها مع الصديق الكبير، حيث أكد العديد من الأشخاص المقربين من كلا الرجلين هذه العلاقة للباحث، إذ ادعى متعاون سابق مقرب من الكبير، تحدث شريطة عدم الكشف عن هويته، أنه في ذروة سعر الدولار في السوق السوداء، سيأتي عيسى إلى البنك المركزي عدة مرات في الأسبوع، وهو ما أكده عيسى نفسه للباحث، أنه كان يذهب إلى البنك كثيرًا واعتبر الكبير «صديقًا»، لكن عندما أثار الموضوع مع كبير مرارًا وتكرارًا، أجاب مرتين بسؤال «محمد من؟» ونفى أي علاقة مميزة.
وأشار الباحث إلى تقرير جرى تسريبه العام 2018 من قبل مكتب التدقيق الليبي خلُص إلى أن البنك المركزي تسبب عمدا في أزمة في الواردات من خلال عرقلة عمل لجنة مشتركة بين الحكومات جرى تشكيلها للإشراف على خطابات الاعتماد، حيث زاد الضغط السياسي لإيجاد حلول سريعة نظرًا لارتفاع أسعار السلع الأساسية، فقام البنك بعد ذلك بتخصيص خطابات الاعتماد من تلقاء نفسه. كما عقد الكبير اجتماعات مع عدد من رجال الأعمال البارزين، ومن بينهم عيسى، لصياغة مراسيم تجيز الواردات الطارئة، ثم حاول رجال الأعمال أنفسهم الاستفادة من هذه الإجراءات قبل أن يوقفها ديوان المحاسبة، بحسب التقرير وعدد من الأشخاص المطلعين على الاجتماعات.
أموال المركزي في جعبة المجموعات المسلحة
يقول تقرير مجلة «نيو لاينز» الأميركية إن بعض الشركات التي تستفيد من خطابات الاعتماد شركات كانت واجهة للجماعات المسلحة، حيث وثقت لجنة تحقيق تابعة للأمم المتحدة خطابات اعتماد تزيد قيمتها عن 20 مليون دولار حصل عليها هيثم التاجوري الذي يتزعم مجموعة مسلحة، في العام 2015 وحده، من خلال تهديد موظفي البنك المركزي.
ونقل الباحث عن مسؤول تنفيذي كبير في أحد البنوك في طرابلس قوله: «لقد كانت أوقاتًا عصيبة للغاية. الجماعات المسلحة كانت تهدد وتخطف مديري البنوك»، وكان من بين ضحايا عمليات الاختطاف عدد من مسؤولي البنك المركزي أو أقاربهم، بمن فيهم شقيق رئيس مكتب الصديق الكبير، في حين يزعم الأخير أنه هو نفسه لم يخضع للتهديدات مطلقًا، حيث قال لـ«ولفرام لاخر» في العام 2018: «في ربيع 2017، جاء هيثم التاجوري وغنيوة الككلي إلى منزلي، لكننا رفضنا دائمًا محاولات ترهيبنا».
كما نقل عن فتحي باشاغا، الذي أصبح بعدها وزيرًا للدخلية، قوله وهو غاضب في أبريل 2018: «أكبر مشكلة تواجه ليبيا اليوم ليست رئيس الوزراء فايز السراج أو حفتر، إنها كبيرة! إنه (الكبير) يشتري قادة الميليشيات والبرلمانيين بخطابات اعتماد، ويحولهم بين عشية وضحاها إلى مليونيرات. هو بحاجة للرحيل».
يسرد «ولفرام لاخر» حدثت واقعة آنذاك، بقوله: «ذات مساء من ذلك الشهر، انضممت إلى مجموعة من قادة (ميليشيات) مصراتة يتجاذبون أطراف الحديث على العشاء والشاي والنرجيلة. انزعج مضيفي من أخذ ميليشيات طرابلس كل شيء لأنفسهم، وقال (نحن ذاهبون إلى طرابلس للحصول على نصيبنا إذا لزم الأمر، سوف نلقي الحكومة في البحر) ورد عضو في المجلس البلدي لمصراتة قائلاً: «لنكن صادقين؛ يتعلق الأمر بالحصول على شريحة من كعكة خطابات الاعتماد»، يقول الباحث لم يعترض أحد.
حرب خطابات الاعتماد
بعدها شهدت طرابلس حربًا عُرفت باسم «حرب خطابات الاعتماد»، وقتها صدت مجموعات طرابلس الهجوم، لكن كجزء من التسوية التي أنهت الصراع، تفاوضت الأمم المتحدة على فرض ضريبة على مشتريات العملات الأجنبية، وهو ما أدى إلى تضييق الفجوة بشكل كبير بين أسعار الصرف الرسمية وسعر الصرف في السوق السوداء، مما سمح للبنك المركزي بتحرير تخصيص خطابات الاعتماد.
ويشير التقرير إلى أن التدخل التركي قلب المعادلة خلال حرب طرابلس، رغم الخلاف الذي نشب بين رئيس المجلس الرئاسي وقتها فائز السراج والصديق الكبير، حيث سعى دبلوماسيون أميركيون ودبلوماسيون من الأمم المتحد آنذاك للتوسط في اتفاق لإبقاء الإيرادات محظورة في حساب المؤسسة الوطنية للنفط في مصرف ليبيا الخارجي.
وفي سبتمبر 2020 استؤنف إنتاج النفط، مع تدفق الإيرادات إلى حساب المؤسسة الوطنية للنفط، مما أثار صراعًا بين كبير والسراج للسيطرة على البنك الليبي الخارجي. وعندما كان غاضبًا من تهميشه، سرب الكبير رسالة «سرية للغاية» إلى صنع الله اتهم فيها المؤسسة الوطنية للنفط بإخفاء مليارات الدولارات من عائدات النفط لسنوات بدلاً من تحويلها إلى البنك المركزي. ورد صنع الله على ما سماه «السياسات الفاشلة» لكبير بعنوان فيديو لاذع: «أين ذهبت كل الأموال؟ شخص واحد يتحكم في كل شيء. من أنت أخي هذه الفوضى لا يمكن أن تستمر. حتى يتم إصلاح البنك المركزي، لن ترى أي أموال على الإطلاق».
براغماتية الكبير وشبكة حلفاء في مجلسي النواب والدولة
يقول التقرير إن الكبير نجا من خلال تكييف شبكته السياسية باستمرار، بدلاً من الاعتماد على أي فصيل معين، حيث سمح له الانقسام في العام 2014 بمساحة كبيرة في الإبحار في المشهد المتغير في ليبيا، بالإضافة إلى عدم اعتراف الحكومات الغربية بالحبري محافظًا، فضلا عن فشل الترتيبات المتعلقة باتفاق الصخيرات بتغيير إدارة المصرف المركزي بسبب الخلاف بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة.
يُزعم على نطاق واسع، بحسب الباحث «ولفرام لاخر» أن الكبير لديه حلفاء في كل من مجلس الدولة ومجلس النواب، متجاوزًا جميع الانقسامات السياسية، حسبما أبلغه الرئيس السابق للمجلس الأعلى للدولة، عبد الرحمن السويحلي، في مقابلة العام 2021 بأن الصديق الكبير جمع «مجموعات ضغط» في كلا الهيئتين.
ونقل عن السويحلي قوله إن التهديدات المتكررة من قبل البرلمانيين لاستبدال الكبير ترقى إلى شكل من أشكال الابتزاز بهدف تأمين الوصول إلى الأموال، لافتا إلى أن أحد المتعاونين السابقين المقربين من المحافظ أخبره أن أعضاء البرلمان يأتون بشكل متكرر لمقابلة الحاكم لطلب الخدمات.
يقول الباحث: «سمحت براغماتية الكبير في التعامل مع الانقسامات السياسية في ليبيا بالتمسك بمنصبه حتى عندما بدا أن الجميع قد انقلبوا ضده»، حتى عندما تعرض لضغوط من جميع الجهات، عندما اتفق السراج وصنع الله والأمم المتحدة على تجاوزه، مما يحرم البنك المركزي من عائدات النفط، عقد الكبير اجتماعاً لمجلس الإدارة مع علي حبري والأعضاء الآخرين المقيمين في الشرق، وهو الأول منذ العام 2014.
حيلة توحيد المصرف المركزي وغموض الموقف تجاه الدبيبة وباشاغا
هذه الحيلة التي دفع بها الكبير، جاءت بحسب الباحث تحت غطاء عملية مطولة تفيد ظاهريًا بمحاولة إعادة توحيد البنك المركزي، وهي ما أبعدت الكثير من الضغط الدولي الذي واجهه المحافظ.
وبالتوازي مع التقارب مع الحبري، ألقى الكبير وقتها بثقله في المفاوضات التي كانت تقودها الأمم المتحدة بشأن تشكيل حكومة وحدة لتحل محل كل من حكومة السراج والسلطات الموازية في الشرق، حيث أوضح تعاونه باعتباره الورقة الرابحة لأي رئيس وزراء محتمل مدعوم من شرق ليبيا.
قدوم عبد الحميد الدبيبة، خلفًا لما سماه التقرير «عدوه السراج»، أصبح الكبير حليفًا للحكومة الوليدة، ومنذ ذلك الوقت انفتحت خزائن المركزي أمام حكومة الوحدة لتنفيذ برامجها التي شملت منح باهظة للمقبلين على الزواج. لكن الباحث يعتقد أن الصديق الكبير حافظ على الغموض تجاه الدبيبة ومنافسه فتحي باشاغا المعين من البرلمان.
وتحت ضغط الولايات المتحدة، بدأ الكبير نشر بيانات أكثر تفصيلاً عن الإنفاق الحكومي، مع استمرار غموض موقفه من الحكومتين المتنافستين، حيث ينقل الباحث عن أحد قادة المجموعات المسحلة قوله: «سيكون من يدعمه الكبير رئيس الوزراء».
ومع فشل باشاغا في دخول طرابلس، تحول الكبير إلى الدبيبة، على الرغم من عدم تخفيف قيود الحقيبة، واعتبره حمودة سيالة، عضو البرلمان الذي ابتعد عن السياسة منذ صعود الدبيبة: «إنه خبير في قراءة المشهد، وركوب الموجة للبقاء».
سر شخصية الكبير الغامضة
يشير كاتب تقرير مجلة «نيو لاينز» الأميركية إلى أن سلطة الكبير تجلت بشكل واضح في طلب عدد هائل ممن أجريت معهم المقابلات لهذا البحث، والتي شملت مصرفيون وبرلمانيون ومسؤولون حكوميون، عدم الكشف عن هويتهم. بيد أن الباحث يرى أن وراء ظهور القوة المطلقة، تظهر صورة أكثر تعقيدًا، تسلط الضوء على استعداد الكبير لإجراء ترتيبات مع الخصوم السياسيين عند الحاجة، بالإضافة إلى أسلوب الحذر والمماطلة في طريقة عمله. ومن بين سماته أيضًا، فإن شخصيته الغامضة بشكل أساسي هي التي ربما تجسد سياسته.
وينقل الباحث عن كبار الدبلوماسيين الأجانب الذين التقوا بالكبير بشكل منتظم أقروا بأنه ظل لغزا بالنسبة لهم، باعتباره ليس الحاجز النهائي ضد نهب الدولة الليبية، كما يؤكد هو نفسه، ولا الجاني الأكبر وراء أزمتها، كما يقول أعداؤه. ومع ذلك، فإن العديد من منتقديه، الذين اعترفوا بتقشفه، قبلوا على مضض ادعائه بأنه ساعد في إنقاذ ليبيا من الإفلاس والاعتماد على القروض الخارجية.
يقول «ولفرام لاخر» إن الغموض الذي يكتنف شخصية الصديق الكبير يعكس العديد من التناقضات في ليبيا ما بعد القذافي—التناقضات التي ساهم في تشكيلها: تمويل الدولة للفصائل المتنافسة التي تتنافس على سيطرتها، التحالفات المتغيرة باستمرار، التواطؤ بين الخصوم السياسيين المزعومين في إدامة أزمة البلاد؛ ويخلص إلى أن تسوية النزاعات في ليبيا هو الحدث الوحيد الكفيل بإنهاء فترة ولاية الكبير.