الوطن| رصد
طرحت المستشارة الخاصة السابقة للأمين العام للأمم المتحدة بشأن ليبيا، ستيفاني وليامز، رؤية بخصوص الجماعات المسلحة في ليبيا، وآليات إنهاء “تلك المعضلة”، وذلك عبر خطوات تتضمن “حل تلك الجماعات وإعادة إدماجها في المجتمع”.
وقدمت وليامز تلك الرؤية في مقال مطول نشرته مؤسسة “بروكينغز” الأميركية أمس الجمعة، حيث تطرقت فيه للجهود الأممية بخصوص هذا الملف وأيضا التعثرات التي واجهته خلال الفترة الماضية، وكيفية إيجاد حلول مبتكرة من أجل النجاح فيه.
وتاليا نص المقال:
بينما نتطلع إلى العام 2023، من السهل بالفعل التنبؤ بما هو أسوأ في ليبيا. الانقسامات السياسية والمجتمعية مستمرة، وحقوق الإنسان منتهكة بشكل صارخ، والأسلحة وفيرة، والتدخل الأجنبي السلبي مستمر، والقائمة تطول. ومع ذلك، لا يزال اتفاق وقف إطلاق النار المبرم في أكتوبر العام 2020 كما هو، وإن لم ينفذ بالكامل، ويبدو أن احتمال العودة إلى نوع الحرب واسعة النطاق التي شهدناها خلال 2019 – 2020 غير مستبعد. ويوفر هذا الهدوء النسبي فرصة للولايات المتحدة والحلفاء المتشابهين في التفكير – بالإضافة إلى العمل على العملية السياسية التي تبدو مستعصية على الحل – للبناء على جهود ما قبل نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج “DDR)” التي أطلقت العام الماضي للبدء في معالجة مأزق الجماعات المسلحة الهجينة في ليبيا.
هذا تحدٍ للأجيال يجب أن يأخذ في الاعتبار عدة عوامل تميز ليبيا عن سياقات ما بعد الصراع الأخرى: 1) ليبيا دولة ريعية يحصل فيها غالبية السكان من جميع أطراف النزاع على رواتب من الدولة، 2) الجماعات المسلحة المختلطة هي مؤسسات متكاملة رأسيا وقد اخترقت الجهات الرسمية بشكل كامل، 3) تتطلب عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج المستدامة وإصلاح قطاع الأمن عدالة ومساءلة ومنهجًا لامركزيا، 4) ينبغي تجنب الإدماج المباشر للجهات المسلحة في العملية السياسية، 5) يجب أن تكون العقوبات على مستوى قانون ماغنيتسكي مطروحة على الطاولة لأولئك الذين ينتهكون حقوق الإنسان ويرتكبون السرقة الصارخة لممتلكات الشعب الليبي. وقبل كل شيء، يجب أن تستمر جهود نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج وإصلاح القطاع الأمني في تلبية مطالب الشعب الليبي للسيطرة المدنية على الجيش.
عدم قدرة الحكومات الليبية على احتكار السلاح
منذ نحو 12 عاما، انتفض الليبيون ضد معمر القذافي، الرجل الذي حكمهم بوحشية لمدة 42 عاما. ورغم أن الولايات المتحدة قد تعلمت الكثير من كارثة تغيير النظام في العراق العام 2003، إلا أن هذه الدروس للأسف لم تُترجم على أرض الواقع في ليبيا ما بعد الثورة، على حساب الليبيين والتحالف الدولي الذي هزم القذافي. ربما كان التحدي الأكبر منذ الإطاحة بالقذافي هو عدم قدرة الحكومات الليبية المتعاقبة على ممارسة احتكار استخدام القوة.
في كتابه “جميع الإجراءات الضرورية؟” قام أول ممثل خاص للأمم المتحدة إيان مارتن بتفصيل شامل للقرارات الرئيسية التي اتخذها الفاعلون الدوليون والليبيون خلال الفترة الحرجة التي أعقبت سقوط القذافي. وفيما يتعلق بمسألة ما يجب فعله مع العدد الكبير من الجماعات المسلحة التي ظهرت، يعلق مارتن على “الفشل في فهم الجماعات المسلحة ومعالجة قطاع الأمن بالكامل”.
هنا تقع المسؤولية الأكبر على عاتق الحكومات التي دعمت وسلحت ووجهت كتائب المتمردين.. وبحلول الوقت الذي وصلت فيه إلى ليبيا كنائبة الممثل الخاص للأمم المتحدة – في صيف العام 2018 ، كان عدد عناصر الجماعات المسلحة في غرب ليبيا قد تكاثر بأعداد كبيرة من نحو 30 ألفًا حسب الاحصائيات بعد الإطاحة بالقذافي. وفي حين انخفض عدد الجماعات المسلحة التي تتخذ من طرابلس مقرا لها، عززت تلك التي بقيت قوتها في نموذج يمتد من المكاتب الحكومية العليا إلى الشباب الذين يرفعون البنادق في الشارع. انتزعت الجماعات المسلحة المختلطة في جميع أنحاء البلاد صلاحيات الدولة من اعتقال واحتجاز ومراقبة وسلطات ذات صلة بالمخابرات، كل ذلك خلال القيام بأنشطة على غرار المافيا بما في ذلك تهريب الأشخاص والوقود والمخدرات و أسلحة.
وفي الشرق، كان الفاعل العسكري الأكبر، الجنرال خليفة حفتر، مشغولاً بمشروعه الخاص بعد أن هزم بحلول العام 2018 معظم الميليشيات الشرقية المتطرفة واستوعب في قواته مجموعات مسلحة مختلفة والعديد من فلول جيش القذافي السابق. كان حفتر وضع نصب عينيه منذ فترة طويلة حكم البلد الذي ولد فيه على غرار نموذج “جيش بدولة” الذي تفضله أنظمة استبدادية عربية. وقام حفتر بكل ما لديه من قدرة في أبريل العام 2019 ، في محاولة سيئة للسيطرة على طرابلس انتهت بهزيمة بعد الدخول الحاسم للأتراك إلى جانب الحكومة المعترف بها من الأمم المتحدة في طرابلس.
التحرك نحو الاستقرار وبناء الدولة
لا يوجد نهج واحد يناسب الجميع لملفات نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج وإصلاح القطاع الأمني المعقدة والمترابطة في ليبيا، لكن هذه الجهود يجب قبل كل شيء أن تفي بمطلب الشعب الليبي للسيطرة المدنية على الجيش. لقد أتاح اتفاق وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في أكتوبر العام 2020 بوساطة الأمم المتحدة فرصة لمعالجة معضلة الجماعات المسلحة في ليبيا. وتم بالفعل إرساء الأرضية مع الجهات الفاعلة الليبية الرسمية، بما في ذلك اللجنة العسكرية المشتركة والسلطات المدنية في طرابلس، لتعزيز جهود ما قبل نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج، لا سيما خلال اجتماع استضافته الحكومة الإسبانية في مايو العام 2022. وينبغي أن تستمر هذه الجهود مع الأمم المتحدة والولايات المتحدة والحلفاء ذوي التفكير المماثل مع مراعاة العوامل التالية:
1- تُعد ليبيا اقتصادًا ريعيًا مع وجود قطاع خاص ضعيف، وحتى منعدم عمليا، و(هي) دولة مليئة بالمؤسسات التي لديها عدد كبير من الموظفين (في العام 2020، على سبيل المثال، كان مكتب رئيس الوزراء وحده يضم أكثر من 900 موظف) . يتقاضى أكثر من 80% من السكان في سن العمل في ليبيا رواتبهم من الخزينة العامة. لذلك ، يجب أن تأخذ أي جهود لنزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج في الاعتبار احتمال ادماج أعضاء الجماعات المسلحة في هياكل الدولة القائمة – بعبارة أخرى ، في نفس الكيانات التي نهبها العديد منهم، لكن ليس جميعهم، على مدى العقد الماضي.
2- ينبغي، إلى أقصى حد ممكن، نقل عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الإدماج وإصلاح القطاع الأمني من المركز إلى المجتمعات المحلية. ومع جمود العملية السياسية الوطنية، يجب أن يكون هناك ضغط من أجل لامركزية حقيقية يمكن أن تفتح فرصًا للجهات الفاعلة في الجماعات المسلحة للانضمام بشكل أكثر ملاءمة إلى المناطق والمجتمعات التي ينحدرون منها والتي يزعمون أنهم يوفرون (وفي بعض الحالات فعلا يفعلون) لها الحماية. يجب استشارة المجتمعات المحلية ، بما في ذلك المجالس البلدية ومنظمات المجتمع المدني ومجالس الشيوخ والمجموعات النسائية بشأن الترتيبات الأمنية، بما في ذلك سحب الأسلحة الثقيلة والمتوسطة الحجم من المناطق الحضرية. ستعرف المجتمعات المحلية بشكل أفضل من السلطات المركزية كيفية إعادة دمج عناصر الجماعات المسلحة في بيئتها، والتخلي عن البندقية من أجل وظائف أكثر سلمية.
3- يجب توخي الحذر قبل المضي في الاقتراح الذي تقدمت به بعض الجهات الفاعلة، ومعظمها في غرب ليبيا، لإنشاء “حرس وطني” منفصل لاستيعاب عناصر الجماعات المسلحة. لا تحتاج ليبيا إلى حرس وطني بقدر ما تحتاج إلى حرس حدود أكفاء وقوة حماية بنية تحتية بالغة الأهمية مدربة تدريبا جيدا وأقل ضراوة. إذ يمكن لحرس وطني ، بميزانية منفصلة وترسانة أسلحة ، أن يتطور إلى منافس لمنافسة القوات المسلحة الوطنية. وتكون هذه وصفة لمزيد من الصراع وليس أقل.
4- السلام المستدام يتطلب العدالة. يجب أن تسترشد عملية نزع السلاح والتسريح وإعادة الدمج وإصلاح القطاع الأمني بالتركيز على التدريب على حقوق الإنسان لأولئك الذين يتجهون إلى قطاعات الجيش والشرطة والأمن. وينبغي أن يكون هناك تدقيق فردي، بدلا من استيعاب مجموعات كاملة في هذه القطاعات. يجب استثناء أي شخص متورط في انتهاكات حقوق الإنسان من خلال عملية محاسبة منفصلة تشكل جزءًا لا يتجزأ من حزمة المصالحة الوطنية الشاملة. ارتكبت الجهات المسلحة في جميع أنحاء البلاد انتهاكات فظيعة على مدار العقد الماضي ، من المقابر الجماعية في ترهونة ، إلى الاغتيالات المستهدفة والاختفاء القسري للناشطات والسياسيات الليبيات ، إلى الاعتداء اليومي على مواطنيهم فضلاً عن المعاملة السيئة للمهاجرين الأفارقة والآسيويين – كل ذلك بدون مساءلة للجناة. ويجب أن تكون العقوبات على مستوى قانون ماغنيتسكي مطروحة على الطاولة لجميع الفاعلين الذين ينتهكون حقوق الإنسان وينهبون الدولة.
5- إن كيفية إشراك عناصر الجماعات المسلحة في العملية السياسية يتطلب مداولات متأنية وحذر. كان النهج الذي اتبعته الأمم المتحدة في إطار عملية برلين، بمساراتها الليبية الثلاثة المترابطة، هو استخدام المسار العسكري (اللجنة العسكرية المشتركة) باعتباره الشكل الذي سيتم فيه تمثيل الجهات المسلحة رسميًا. حيث اختار الجنرال حفتر خمسة ضباط من قواته ، بينما عينت الحكومة المعترف بها من قبل الأمم المتحدة في طرابلس خمسة ضباط يمثلون المناطق الحضرية الرئيسية في غرب ليبيا: طرابلس ومصراتة والزاوية والزنتان ، بالإضافة إلى ضابط من مدينة غريان. وفي المسار السياسي ، وتماشيا مع المطلب الليبي بأن يكون هناك إشراف مدني على الجيش، سُمح للجهات المسلحة بإرسال ممثلين مدنيين. لكن منذ ذلك الحين، شقت الجماعات المسلحة طريقها بشكل مباشر إلى العملية السياسية ، بمساعدة جهات أجنبية استضافت اجتماعات “سرية” بين الجماعات المسلحة الليبية الغربية وممثلي حفتر العسكريين والمدنيين.
عندما التقيت في يناير العام 2022 في ليبيا بممثلي الجماعات المسلحة الذين حضروا مثل هذا الاجتماع في المغرب في نهاية العام 2021، كان من الواضح لي أنهم كانوا يتمتعون بمكانتهم المرموقة داخل الخيمة السياسية، متفاخرين علانية بأن المدنيين سيفعلون ما تم توجيههم إليه – وهو بالكاد فأل خير للعلاقات المدنية – العسكرية، ناهيك عن عملية خالية من التهديدات والترهيب.