بوتين… «اضرب أولاً وبقوة»
الوطن| رصد مقالات
رغم أن جيشه يخوض حرباً دامية حتى هذا اليوم، لم يتوقف الرئيس بوتين عن إلقاء الخطابات التي تخلط بين الانتقادات السياسية والثقافية للغرب. في خطاب غاضب قال إن الغرب عبارة عن إمبراطورية من الأكاذيب وتعهد بأن الروس لن يطأطئوا رؤوسهم.
ولكنها ليست المرة الأولى، فبوتين منذ أعوام يركز في خطابه ليس على انتقاد النظام الليبرالي الغربي الذي أعلن موته أكثر من مرة، ولا «الناتو» الذي يراه تهديداً، بل أيضاً على القيم الثقافية الغربية التي يرى فيها بلاء هذا العصر. لقد بدا في بعض الأحيان منظّراً ثقافياً يسعى لفرض نموذج من التفكير مناهض للتفكير الغربي. ويبدو هذا أمراً مكرراً من القادة الذين يحققون نجاحاً سياسياً واقتصادياً داخلياً لسنوات ويحظون بتأييد شعبي واسع ويسعون للتوسع عسكرياً (سوريا مثالاً) ولترويج نظرتهم الآيديولوجية والثقافية للعالم.
من المستبعد أن يحقق بوتين طموحاته الآيديولوجية على نطاق واسع على الأقل على المدى المنظور، ولكن هذا يجعلنا نفهم أن الحرب على أوكرانيا لا تهدف فقط للحفاظ على الأمن الاستراتيجي الروسي ونزع السلاح من أيدي «النازيين» وتحويل أوكرانيا إلى بلد محايد، كما تقول الرواية الروسية، ولكن هدفها أيضاً تشكيل نظام سياسي وثقافي مختلف.
لقد بدا أن الرئيس بوتين غير مكترث بالعقوبات الغربية القاسية، وظهر في مرات وهو يلقي الدعابات وأحاط نفسه بمجموعة من مضيفات الطيران، ورفض فكرة لقاء الرئيس الأوكراني زيلينسكي. ربما التفسير الوحيد لهذه التصرفات ليس محاولة إظهار الصلابة والتماسك في الأوقات الصعبة، بل هي تعكس قناعة حقيقية بالانعزال عن الغرب ووقف تأثيراته السياسية والثقافية في الطريقة الصينية التي تسعى لأن تعزل نفسها عن التأثيرات الخارجية وتحافظ على النمو الاقتصادي وتماسك النظام السياسي.
يسعى الرئيس بوتين لخلق قطب عالمي جديد على الطريقة الصينية؛ منعزل سياسياً ومسور ثقافياً ومتصل اقتصادياً بما يخدم مصالحه. بين كلمات بوتين نكتشف المرارة من الثورات الملونة التي يرى أن خلفها أيادي غربية ويؤمن بأن الهدف النهائي للدول الغربية هو إسقاط نظامه. لقد أراد بوتين مرة اختبار الماء وطلب أن تنضم روسيا لحلف «الناتو» ولكن طلبه جوبه بالرفض السريع. رفض متوقع لأن هدف بوتين كان يعني تقويض الحلف، عدوه القريب، من الداخل.
وقال بوتين، مؤخراً، إن مطالب روسيا تمّ تجاهلها على مدى سنوات، واتهم الغرب بمحاولة «حبْس» روسيا كقوة عالمية منبعثة. هذه الكلمات معبرة عن رؤية بوتين الحالية للنظام العالمي الذي يحاصر روسيا ويهدد وجودها بالثورات ودعوات الديمقراطية ودعم الناشطين الروس المناهضين له وتحويلهم لأبطال. يجب تغيير كل هذا حتى يسمح للقوة الروسية بالانبعاث من جديد. وفي مقال له كتب عن سبب انهيار الاتحاد السوفياتي: «فقدنا الثقة مرة واحدة بأنفسنا ولكنها كانت كافية لتغيير موازين القوى في العالم». لا يبدو بوتين متردداً في تحقيق هدفه، وكرر أن نظام القطب الواحد أمر غير مقبول، وربما أنه يرى هذه اللحظة المثالية الثانية لاستعادة المجد الروسي المفقود وتشكيل العالم الموازي الذي يحلم به.
العزلة الثقافية نرى ملامحها حالياً من خلال تلطيخ القيم الغربية الاجتماعية ووصفها بالانحلال حتى في الرياضة. ومؤخراً تحدث بوتين عن مشاركة الرجال المتحولين جنسياً للمشاركة في البطولات النسائية، وقال إن هذا يعني القضاء على الرياضة النسائية. بوتين لا يتحدث هنا فقط عن الرياضة ولكن عما هو أكبر. ونرى، مؤخراً، في سياق الحرب منع تأثيرات الغرب في شعبه من خلال حظر مواقع التواصل الاجتماعي التي تم حجبها مؤخراً ومن المؤكد، على النموذج الصيني، سيتم خلق منصات داخلية خاصة بالشعب الروسي، ورأينا الآن بدائل لـ«إنستغرام» و«فيسبوك» و«غوغل» الذي حجبت خدماته الإخبارية. بوتين يسعى لخلق قطب روسي محصن ثقافياً، يواجه الآن صعوبات اقتصادية بسبب العقوبات المفروضة عليه، لكن حديث المسؤولين الروس يذهب في سياق خلق منظومة اقتصادية جديدة لا تعتمد على الغرب بشكل أساسي ولا تتأثر بمواقفه السياسية ورغم ضغوطات الدول الغربية على العديد من الدول فإنها لم توقف تجارتها وتعاونها مع روسيا، وقد رفضت الصين والهند أي ضغوطات لعزل روسيا اقتصادياً. المتحدث باسم الكرملين أشار أكثر من مرة إلى أن العالم أوسع من أن تفرض العقوبات الأميركية والأوروبية عزلة على موسكو.
ربما من المبالغة الاعتقاد أن روسيا ستقضم دولاً أخرى بعد أوكرانيا أو إعادة السيناريو الألماني في الحرب العالمية الثانية. الوضع مختلف هذه المرة، ونرى العالم يتشكل وتتغير ملامحه. في كتابه «الشخص الأول» يقول بوتين: «للتعامل مع أعدائك هناك شيء واحد فقط يعمل عند المواجهة وهو أن تبدأ بالهجوم. اضرب أولاً وبقوة ولن يستطيع بعدها خصمك أن يفعل أي شيء». بوتين أراد أن يضرب أولاً وبقوة ويعيد روسيا لمكانتها المجيدة المحفورة بتفكيره ودون أن يشعر بلحظة الضعف وفقدان الثقة أمام الغرب، التي تسببت في انهيار الاتحاد السوفياتي. فهل ينجح؟
صحيفة “الشرق الأوسط” اللندنية